تذكرُ آخر مرةٍ قُمت فيها بحلِّ عمليّة حسابيّة بنفسك؟ ربما منذ أيام المدرسة، أو متى كانت آخر مرةٍ اضطُرِرت فيها لحفظ رقم هاتف أحد أصدقائك غيباً؟ بل أكثر من ذلك؛ هل شعرتَ يوماً أنّ حصولك على معلومةٍ ما قد يُشكّل عائقاً أو قد يتطلّب منك جهداً عقليّاً أو جسديّاً في البحث والتّقصّي؟ بالطبع هناك حالاتٌ استثنائيّة -أحد أصدقائي يمتلك موهبة حفظ جميع أرقام الهاتف عن ظهر قلب- لكن بشكلٍ عام أخذت التكنولوجيا على عاتقها مهام َالبحث والتّقصّي والحصول على المعلومة مهما كان نوعها أو مصدرها نيابةً عنّا، حتّى أنّك إن أردت أن تتذكر حَدَثاً ما في الماضي أو ذكرى معينة أو شخصاً ما فالتكنولوجيا ستستحضر لك تلك الوجوه والذكريات لتُعيدَها وتعرُضُها أمَامك على الشّاشات فأصبحتْ ذاكرتك ومخيّلتك عاطلةً عن العمل.
تقولُ بعض الدّراساتِ أيضاً إن الألعاب والهواتف الذكيّة وغيرها تؤثّرُ سلباً على نموّ الأطفال عقليّاً واجتماعياً وتَبليهم بالتسطّح الفكري والسذاجة والكسل وتُخفّض من مستوى ذكائهم بشكلٍ عام.
فهل تؤثّر التكنولوجيا حقّاً على قدراتنا العقليّة ومستوى ذكائنا وتُصيب أدمغتنا بالكسل؟ أم هي بريئةٌ من هذه التهمة؟
بين الماضي والحاضر
لاستيضاحِ الفكرةَ أكثر، تعالوا لنعود معاً بذاكرتنا البشريّة إلى الخلف قليلاً (بالاعتماد على مخيّلتنا ودون أن نستخدم التكنولوجيا هذه المرّة) قبل مئتي عامٍ مثلاً، ولنفترض أنّ طبيباً أو كيميائيّاً أو باحثَ علمٍ ما في قريةٍ بعيدةٍ غابت عنه معلومةً ما ضروريّة في عمله أو بحثه، فسيضطرّ حينها إلى أن يُحضّر نفسه للسفر إلى أقرب مكتبةٍ يُمكن أن يجد فيها ضالّته وربّما كانت في العاصمة بعيداً مئات الكيلومترات، فإن وصل إليها سيتعيّن عليه أن يبحث بنفسه في مئاتِ الكُتبِ، بعضها نافعٍ وبعضها غير نافع. وقد يُضطرّ للبحث في أكثر من مكتبةٍ وفي أكثر من مدينة، وقد لا يُوفّق أبداً! هذا الرّحلة الشّاقة ستتطلب الكثير من الوقت والجُهد والمال وهي مهدّدةٌ بالفشل.
أمّا اليوم، فما على هذا الباحث نفسه إلّا أن يُخرج هاتفه الذكيّ من جيبه وهو جالسٌ على الكرسيّ، ليسأل Siri أو Google Assistant السؤال شفهيّاً دون أن يُتعب نفسه بكتابَتِهِ، ليأتيَه الجواب إلى أيّ مكانٍ في العالم بدقّةٍ عالية خلال مدّة 0.01 ثانية فقط ومهما كان نوعُ السؤال! فلنُتعبْ مخيّلتنا قليلاً لنفكّر لوهلةٍ بالفارق الكبير بينهما.