الحجرف:دور النشر والمطابع تجد نفسها اليوم مضطرة لإعادة النظر في أدوارها ومكانتها الاقتصادية
شهد العالم في العقدين الأخيرين من الزمن طفرة نوعية في عالم التكنولوجيا والدعامات الرقمية (الحواسيب، منصات التواصل الاجتماعي، انتشار الأجهزة الذكية المحمولة ومتصفحات الكتب الإلكترونية)، إذ اكتسحت هذه الدعامات الرقمية شتى مجالات الحياة وباتت تشغل بال المفكرين والباحثين في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية.
فدور النشر والمطابع تجد نفسها اليوم مضطرة لإعادة النظر في أدوارها ومكانتها الاقتصادية، وحتى الكاتب يجد نفسه مجبرا على مسايرة التحول الرقمي.
قد لا يسعنا المجال لاستعراض تأثير التسونامي الرقمي على مجالات النشاط البشري، إلا أن تأثيره على عالم القراءة بات واضحا. فقد صنعت الثورة الرقمية صيغا جديدة للقراءة.
مع انتشار الأجهزة الذكية والحواسيب والكتاب الالكتروني، حدث انزياح تدريجي في الممارسات القرائية، إذ تعددت الوسائط الرقمية ونشأت القراءة التفاعلية لتحدث علاقة جديدة مع النصوص، ثم جاء الإنترنت ليجعل القراءة تتحرك وتتفاعل مع الروابط التشعبية ومحركات البحث التي تتطلب قدرات ومهارات معرفية جديدة، وهكذا ولدت ممارسات قرائية جديدة.
أصبحت صيغ القراءة معقدة لأنها تتطلب مهارات رقمية متجددة قائمة على السرعة. فالطفرة الرقمية مسّت أغلب جوانب حياتنا: قدراتنا على التركيز والانتباه، علاقتنا بالزمن وحبنا للقراءة، لم تعد القراءة في زمن التحول الرقمي عملية إدماجية لنص أو مستند، إذ تغير السياق وتعددت المحددات على الشاشة وأصبحت السرعة مهارة أساسية للقراءة في ظل تعدد الوسائط.
كل هذه التغييرات لها تأثير على الدماغ البشري الذي طور قدراته للتكيف مع السرعة.
كما أن قدرة الإنسان على الانتباه تطورت فأصبح بإمكانه التركيز على مواضيع متعددة بتعدد الشاشات والوسائط ونمت لدية القدرة التفاعلية.
كما أثرت النصوص التشعبية على لذة القراءة فانتقل الإنسان من القراءة الخطية إلى العمودية ومن الإخبارية إلى السردية وذلك بفضل تنوع الدعامات.
في زمن القراءة الورقية ارتبطت القراءة بالحكايات والروايات. أما في زمن المدونات، أصبحت لذة القراءة في المواقع التفاعلية.
وبذلك نشأت محددات قرائية جديدة مرتبطة بالتفاعل وقدرة القارئ على التحكم في النصوص وإنتاجها. اكتسبت القراءة أبعادا ثقافية وعاطفية عصفت بالنموذج التقليدي للقراءة.
أصبحت القراءة تجربة تسمح للإنسان بالتنقل من نص إلى أخر ومن صفحة إلى أخرى بفضل الروابط التشعبية.
نعيش الآن تجربة رقمية غيرت مفهوم القراءة فأصبحت تعني القدرة على القراءة والفهم من خلال شاشات ومستندات تفاعلية.
إنها تجربة غنية وصعبة في نفس الوقت لأنها تعتمد على أدوات متغيرة، ومقروء غير ثابت، وتتطلب قدرة كبيرة على التركيز والانتباه لتشعب المحددات. كل هذه المتغيرات تجعل عملية بناء المعنى في غاية من الصعوبة.
هذه بعض التغييرات التي أحدثتها الثورة الرقمية في عالم القراءة. فهل تستطيع القراءة الصمود طويلا أمام هذا التسونامي الرقمي؟
سعد هيف الحجرف
جامعة البحرين ـ قسم الإعلام والسياحة والفنون