كاتب يروي تجربته في تعلم الرسم لتحقيق رؤيته
جريدة تعليم
كيلي بينس ترجمة: جمال جمعة –
منذ أن كنتُ قادرة على إمساك القلم الملوَّن، أحببت الرسم. غطيت رزمًا من الأوراق برسوم القصص التي نسجتُها في خيالي. رسمت فوق الإيصالات، ولوائح الوجبات الجاهزة، وعلى كرّاسات والدتي الصفراء. أمضيت الساعات أحلم بحبكات عن الحيوانات والسحرة والفتيات المستكشفات، والصفحات التي تركتها في أكوامٍ حول منزل والديّ وثّقت أبطال وممالك تلك الحكايات.
تنحية المفاهيم المثالية
مع تقدمي في السن، بدأت في أخذ دروس في الفن، ما يعني تعلم الرسم من الحياة وليس من خيالي فقط. الدرس الأول الذي أعطاه أساتذتي غالبًا ما كان متشابهاً. لرسم بورتريت مُقنِع أو حياة جامدة، كنت بحاجة إلى تنحية المفاهيم المثالية عن «الجسد» أو «التفاحة» التي كانت موجودة في ذهني. إن تعلّم الرسم من الحياة هو محو للافتراضات التي يحدد دماغك معالمها على الأشياء التي تراها. هذا صحيح بشكل خاص عند رسم الأشكال، وعند الدراسة المداومة للموديل. أنت «تعرف» أن الفكّ يتقوّس في زاوية معينة، لكن وجه كل شخص يختلف جزئياً بألف تفصيلة دقيقة. كيف يسقط الضوء على الخد مغيّراً شكله وثقله، وثمة شيء فريد يمكن اكتشافه في مَيل الوركين، وانحدار الكتفين، واللمعان الذي يمنح النظرة سيمياء المعرفة، التحدي، أو الدفء. إن التقاط تلك التفاصيل (تلك العيوب الفظة والجميلة) تجعل من الرسم يبدو حيًا وحقيقيًا.
التركيز على التفاصيل
هناك سبب يجعلني دائمًا أحب كتابة التصوير والوصف، ولماذا أستمتع بتحدي الرسم التخطيطي للشخصيات؟ ولِمَ لا أطيق الانتظار لبناء فقرات تستحضر الإحساس بالمكان. وأعتقد أن السبب في ذلك هو أنني تعلّمت في فترة يفاعتي كيفية التركيز بحدّة على التفاصيل. ربما ما هو أهم من ذلك، هو أنني في سنوات تدربي على الفن البَصَري منذ الصف الأول، تعلّمت فرز التفاصيل الأساسية عن التفاصيل الزائدة، لإيجاد التفاصيل التي لا تمحى في ذلك المشهد، وذلك المنظر الطبيعي، وذلك الوجه.
في مذكراته «الشيء الأقرب إلى الحياة»، يناقش جيمس وود أهمية التفاصيل في خلق قصة غامرة. يكتب: «إنها التفاصيل التي تجعل من القصة شخصية»، كما يكتب: «القصص مصنوعة من تفاصيل؛ نحن نعلَق بها، التفاصيل هي ماذا؟ أو ربما ينبغي أن نقول ماهيّة القصص». إن السعي لتكرار هذه «الماهيّة» هو أمرٌ تشترك فيه الكتابة مع الرسم. كتب وود أنه «في الحياة العادية، لا نقضي وقتًا طويلاً جداً في النظر إلى الأشياء أو العالم الطبيعي أو الناس، لكن الكتّاب يفعلون ذلك»، وكذلك الفنانون.
الكتابة والفن البصَري
العديد من الكتّاب لاحظوا التطابق والتوازي بين الكتابة والفن البصَري، ابتداء من غوتة وإي.إي كامينجز، وحتى فلاديمير نابوكوف، وفلانيري أوكونور، التي كتبت أن «الرسم على وجه الخصوص» كان مفيدًا للكتّاب عند الدراسة، لأنه «يساعدك على الرؤية… يجعلك تنظر. على الكاتب ألاّ يخجل أبداً من التفرّس. ليس ثمة شيء لا يتطلب اهتمامه». يمثل «الإكفراسيس» Ekphrasis * اتحادًا آخر بين المجالين، تدريباً لقدرة الكاتب على ملاحظة تفاصيل قطعة فنية، كما في «صورة دوريان غري» لأوسكار وايلد. إن توصيفات وايلد للصورة تجعلها تنبض بالحياة تماماً، «بوجهها المشوّه الجميل وابتسامتها القاسية».
ذات مرة، حينما كنت مراهقة، كنت أحاول رسم مشهد لمَرج في الصيف. على الرغم من المحاولات العديدة، فلم أستطع على ما يبدو مزج الدرجة اللونية للأخضر اللامع التي تجلت في بزوغٍ بعيدٍ بين جذعي شجرتين مقوستين على مدى البصر. أضفتُ لطخات من الأبيض والأصفر والأزرق، بحثًا عن التركيبة الدقيقة التي ستنتج هذا اللون، لون العشب الجديد يتغيّر عندما ينغمر في ضوء الشمس الساطع في ظهيرة أغسطس. كنت أعلم أنه من دون اللمسة الصحيحة، ستفشل اللوحة في هدفها: تجميد تلك اللحظة في زمنها كما تبدو من منظوري، ولا يهم إن كانت هذه البقعة الخضراء تغطي بوصتين فقط من لوحتي. كانت تفصيلاً محدداً وضرورياً لتأثير الصورة. الحلّ لمعاناتي جاء في شكل غير متوقع، لطخة حمراء من القرمزي الآليزارين Alizarin Crimson (أحمر مائل للبنّي)، اقترحها أستاذي كطريقة لمزج الأخضر الفاتح العكر والتفاح والليمون إلى شيء أقرب ما يكون إلى حقيقة ما كان أمامي.
الفرشاة والجملة
صنعة الكتابة النابضة بالحياة تشبه إلى حد كبير عملية مزج الألوان أو الرسم وإعادة الرسم، إلى أن ترسو على ذلك السطر الحاسم الوحيد. تتمحور عملية الصياغة حول تركيب الكلمات في جُمَل، والجُمَل في فقرات، مثل قطع الألغاز إلى أن تجد تلك الجملة المناسبة، تلك التي يمكنها استحضار شيء واضح ودقيق في ذهن شخص غريب تماماً. يعمل الكتّاب، مثل الفنانين، على استخلاص شيء ملموس في أقل عدد من الضربات الضرورية. ينبغي أن يكونوا حريصين على عدم إغراق القراء بما هو غير ضروري، ومنحهم، مع ذلك، ما يكفي من المحسوس والمثير للدهشة لإبقائهم منجذبين، لإغرائهم بالغرق كلّياً وبصدق في داخل النص. الرسام النابغ يقترح حركة وإحساساً بضربة فرشاة قاطعة. كذلك يستطيع الكاتب البارع استحضار صورة فريدة، أو صوت، أو مكان بجملةٍ رنّانةٍ واحدة.
تعلّم الملاحظة
مثل أية مهارة أخرى، تعتمد الملاحظة الدقيقة على العضلات التي يمكنك شدها وتقويتها بواسطة التدريب. الرسم هو إحدى طرق التدريب، لكنه ليس الطريقة الوحيدة لتعلم الملاحظة، تحتاج فقط إلى الإبطاء في مسار يوم عادي لقضاء بعض الوقت في التركيز وفهرسة مشاهد العالم، وأصواته، وروائحه، وملمسه أثناء تنقلك فيه. التفاصيل التي تنبثق أمامك لن تكون هي نفسها التي تبرز للآخرين، لأنك عندما تلاحظ، فإنك تقوم بذلك عبر عدسة ذكرياتك، ومعرفتك، وتفضيلاتك، وعواطفك.
في الرسم، فإن «البنتيمنتو»Pentimento ** هو مكان في تكوين قام الفنان فيه بتغيير مساره، قبضة يد كانت مبسوطة، أو إمالة ذقن الموديل المواجه للمشاهد جانباً. في العمل المكتمل، عادة ما تكون هذه التغييرات غير مرئية. لكن أشباح هذه التعديلات هي جزء من اللوحة، إنها تتضمن قصة خلقها، وهي السقالات التي بُنيت عليها. مسوّدات الكاتب، كل تلك البدايات الزائفة، الأثيرة التي كتب عليها الفشل، تشبه إلى حد كبير «البنتيمنتي Pentimenti» التي يخفيها سطح اللوحة اللامع. قد لا يتمكن القارئ من تبيّن ما قد تم تنفيذه من المسوّدة الأولى إلى الأخيرة، ومع ذلك فإن كل خيار منها هو خيار متفرد، وتراكمها يثمر مخطوطة فريدة بالنسبة لمؤلفها.
في مقدمته لأنطولوجيا (فرشاة الكاتب) التي تضم أعمالاً فنية لكتّاب مشهورين، سعى جون أبدايك إلى اكتشاف الموضع الذي تتقاطع فيه حرفة الفنان مع الكاتب، متتبعاً منشأ الكتابة حتى المخطوطات المذهّبة والمنمنمات، ومشيرًا إلى «سعي الفنّ للحيوية، والدقة، والاقتصاد» كدليل على تآزره مع الأدب. ويختتم بالقول: «لا عجب في أن العديد من الأدباء كتبوا ورسموا.. فالأدوات متحالفة، والحافز واحد».
* الإكفاراسيس: هو وصف لعمل فنّي أو معماري في نصّ أدبي.
** البنتيمنتو: هو وجود أو ظهور صور أو أشكال أو ضربات فرشاة سابقة في اللوحة تم تغييرها والرسم فوقها في ما بعد.
القبس